فصل: تفسير الآيات (17- 29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المبرد: {أمرًا} في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالًا.
وقال الأخفش: انتصابه على الحال، أي: امرين.
وقيل: هو منصوب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمرًا حاصلًا من عندنا، وفيه تفخيم لشأن القرآن، وتعظيم له.
وقد ذكر بعض أهل العلم في انتصاب {أمرًا} اثني عشر وجهًا أظهرها ما ذكرناه، وقرأ زيد بن علي: (أمر) بالرفع، أي: هو أمر {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} هذه الجملة إما بدل من قوله: {إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}، أوجواب ثالث للقسم، أو مستأنفة.
قال الرازي: المعنى: إنا فعلنا ذلك الأنذار لأجل إنا كنا مرسلين للأنبياء {رَحْمَةً مّن رَّبّكَ} انتصاب {رحمة} على العلة، أي: أنزلناه للرحمة، قاله الزجاج.
وقال المبرد: إنها منتصبة على أنها مفعول لمرسلين أي: إنا كنا مرسلين رحمة.
وقيل: هي مصدر في موضع الحال، أي: راحمين، قاله الأخفش.
وقرأ الحسن: {رحمة} بالرفع على تقدير هي رحمة {إِنَّهُ هو السميع} لمن دعاه {العليم} بكل شيء.
ثم وصف سبحانه نفسه بما يدلّ على عظيم قدرته الباهرة، فقال: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} قرأ الجمهور: {ربُّ} بالرفع عطفًا على السميع العليم، أو على أنه مبتدأ، وخبره {لا إله إلاّ هو}، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: هو رب، وقرأ الكوفيون: {ربّ} بالجرّ على أنه بدل من ربك، أو بيان له، أو نعت {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} بأنه ربّ السموات، والأرض، وما بينهما، وقد أقرّوا بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع، وجملة {لاَ إله إِلاَّ هو} مستأنفة مقرّرة لما قبلها، أو خبر ربّ السموات كما مرّ، وكذلك جملة {يُحْيِي وَيُمِيتُ}، فإنها مستأنفة مقرّرة لما قبلها {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءآبائكم الأولين} قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ، أي: هو ربكم، أو على أنه بدل من {ربّ السموات}، أو بيان، أو نعت له، وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه، وابن محيصن، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة، والحسن بالجرّ، ووجه الجرّ ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجرّ في {ربّ السموات} {بَلْ هُمْ في شَكّ يَلْعَبُونَ} أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شكّ من التوحيد والبعث، وفي إقرارهم بأن الله خالقهم، وخالق سائر المخلوقات، وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزو، ومحلّ {يلعبون} الرفع على أنه خبر ثان، أو النصب على الحال.
{فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن كونهم في شك ولعب يقتضي ذلك؛ والمعنى: فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين، وقيل المعنى: احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين.
وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل: إنه من أشراط الساعة، وأنه يمكث في الأرض أربعين يومًا.
وقد ثبت في الصحيح: أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة، وقيل: إنه أمر قد مضى، وهو ما أصاب قريشًا بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء، والأرض دخانًا، وهذا ثابت في الصحيحين، وغيرهما: وذلك حين دعا عليهم النبي بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، وكان الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وقيل: إنه يوم فتح مكة، وسيأتي في آخر البحث بيان ما يدلّ على هذه الأقوال.
وقوله: {يَغْشَى الناس} صفة ثانية لدخان، أي: يشملهم، ويحيط بهم {هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: يقولون هذا عذاب أليم، أوقائلين ذلك، أو يقول الله لهم ذلك {رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ} أي: يقولون ذلك، وقد روي أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، والمراد بالعذاب: الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان، أو يقولونه إذا رأوا الدخان الذي هو من آيات الساعة، أوإذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال.
والراجح منها: أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد، وشدّة الجوع، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد أن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر، ولا ينافيه أيضًا ما قيل: إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه.
{أنى لَهُمُ الذكرى} أي: كيف يتذكرون، ويتعظون بما نزل بهم والحال أن {قَدْ جَاءهُمْ رسول مُّبِينٌ} يبين لهم كل شيء يحتاجون إليه من أمر الدين، والدنيا {ثُمَّ تَولواْ عَنْهُ} أي: أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم، ولم يكتفوا بمجرّد الإعراض عنه، بل جاوزوه {وَقالواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ} أي قالوا: إنما يعلمه القرآن بشر، وقالوا: إنه مجنون، فكيف يتذكر هؤلاء، وأنى لهم الذكرى.
ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب، وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله: {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلًا} أي: إنا نكشفه عنهم كشفًا قليلًا، أو زمانًا قليلًا، ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان، فقال: {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} أي: إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا، فإن الله سبحانه لما كشف عنهم ذلك العذاب رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، والعناد، وقيل المعنى: إنكم عائدون إلينا بالبعث، والنشور، والأول أولى {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى} الظرف منصوب بإضمار اذكر، وقيل: هو بدل من يوم تأتي السماء، وقيل: هو متعلق بـ: {منتقمون}، وقيل: بما دلّ عليه منتقمون، وهو ننتقم.
و {البطشة الكبرى}: هي: يوم بدر، قاله الأكثر.
والمعنى: أنهم لما عادوا إلى التكذيب، والكفر بعد رفع العذاب عنهم انتقم الله منهم بوقعة بدر.
وقال الحسن، وعكرمة: المراد بها: عذاب النار، واختار هذا الزجاج، والأول أولى.
قرأ الجمهور: {نبطش} بفتح النون، وكسر الطاء، أي: نبطش بهم، وقرأ الحسن، وأبو جعفر بضم الطاء وهي لغة، وقرأ أبو رجاء، وطلحة بضم النون، وكسر الطاء.
وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس {فِى لَيْلَةٍ مباركة} قال: أنزل القرآن في ليلة القدر، ونزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم نجومًا لجواب الناس.
وأخرج محمد بن نصر، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: يكتب من أمّ الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق وموت، وحياة، ومطر، حتى يكتب الحاج: يحج فلان، ويحج فلان.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن عمر: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} قال: أمر السنة إلى السنة إلا الشقاء والسعادة، فإنه في كتاب الله لا يبدّل، ولا يغير.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب قال: إنك لترى الرجل يمشي في الأسواق وقد وقع اسمه في الموتى، ثم قرأ: {إِنَّا أنزلناه في لَيْلَةٍ مباركة} الآية، يعني: ليلة القدر، قال: ففي تلك الليلة يفرق أمر الدنيا إلى مثلها من قابل من موت، أوحياة، أو رزق، كل أمر الدنيا يفرق تلك الليلة إلى مثلها.
وأخرج ابن زنجويه، والديلمي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان، حتى إن الرجل لينكح، ويو لد له، وقد خرج اسمه في الموتى» وأخرجه ابن أبي الدنيا، وابن جرير، عن عثمان بن محمد بن المغيرة بن الأخنس، وهذا مرسل، ولا تقوم به حجة، ولا تعارض بمثله صرائح القرآن.
وما روي في هذا، فهو إما مرسل، أو غير صحيح.
وقد أو رد ذلك صاحب الدرّ المنثور، وأو رد ما ورد في فضل ليلة النصف من شعبان، وذلك لا يستلزم أنها المراد بقوله: {في ليلة مباركة}.
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما، عن ابن مسعود: أن قريشًا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبطئوا عن الإسلام قال: «اللهمّ أعني عليهم بسبع كسبع يوسف»، فأصابهم قحط، وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجوع، فأنزل الله: {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} الآية، فأتي النبي فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر، فاستسقى لهم، فسقوا، فأنزل الله: {إِنَّا كَاشِفُواْ العذاب قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله: {يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ}، فانتقم الله منهم يوم بدر، فقد مضى البطشة، والدخان، واللزام.
وقد روي عن ابن مسعود، نحوهذا من غير وجه، وروي نحوه عن جماعة من التابعين.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن أبي مليكة قال: دخلت على ابن عباس فقال: لم أنم هذه الليلة، فقلت: لم؟ قال: طلع الكوكب، فخشيت أن يطرق الدخان.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، وكذا صححه السيوطي، ولكن ليس فيه أنه سبب نزول الآية.
وقد عرّفناك أنه لا منافاة بين كون هذه الآية نازلة في الدخان الذي كان يتراءى لقريش من الجوع، وبين كون الدّخان من آيات الساعة، وعلاماتها، وأشراطها، فقد وردت أحاديث صحاح، وحسان، وضعاف بذلك، وليس فيها أنه سبب نزول الآية، فلا حاجة بنا إلى التطويل بذكرها، والواجب التمسك بما ثبت في الصحيحين، وغيرهما: أن دخان قريش عند الجهد، والجوع هو سبب النزول، وبهذا تعرف اندفاع ترجيح من رجح أنه الدخان الذي هو من أشراط الساعة كابن كثير في تفسيره، وغيره، وهكذا يندفع قول من قال: إنه الدخان الكائن يوم فتح مكة متمسكًا بما أخرجه ابن سعد عن أبي هريرة قال: كان يوم فتح مكة دخان، وهو قول الله {فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ} فإن هذا لا يعارض ما في الصحيحين على تقدير صحة إسناده مع احتمال أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه ظنّ من وقوع ذلك الدخان يوم الفتح أنه المراد بالآية، ولهذا لم يصرّح بأنه سبب نزولها.
وأخرج ابن جرير، عن عكرمة قال: قال ابن عباس: قال ابن مسعود: البطشة الكبرى: يوم بدر، وأنا أقول: هي يوم القيامة.
قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح.
وقال ابن كثير قبل هذا: فسر ذلك ابن مسعود بيوم بدر، وهذا قول جماعة ممن وافق ابن مسعود على تفسيره الدّخان بما تقدّم، وروي أيضًا عن ابن عباس من رواية العوفي عنه، وعن أبيّ بن كعب، وجماعة، وهو محتمل.
والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإن كان يوم بدر يوم بطشة كبرى أيضًا. انتهى.
قلت: بل الظاهر أنه يوم بدر، وإن كان يوم القيامة يوم بطشة أكبر من كل بطشة، فإن السياق مع قريش، فتفسيره بالبطشة الخاصة بهم أولى من تفسيره بالبطشة التي تكون يوم القيامة لكل عاص من الأنس والجنّ. اهـ.

.تفسير الآيات (17- 29):

قوله تعالى: {ولقد فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رسول كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رسول أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتيكم بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهوا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وأورثناها قَوْمًا آخرين (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان التقدير: لفقد فتناهم بإرسالك إليهم ليكشف ذلك لمن لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه عما نعلمه في الأزل، وفيما لا يزال ولم يزل، من بواطن أمورهم، فتقوم الحجة على من خالفنا على مقتضى عاداتكم، عطف عليه محذرًا لقريش ومسليًا للنبي- صلى الله عليه وسلم- قوله: {ولقد فتنا} أي فعلنا على ما لنا من العظمة فعل الفاتن وهو المختبر الذي يريد أن يعلم حقيقة الشيء بالإملاء والتمكين ثم الإرسال.
ولما كان من المعلوم أن قوم فرعون لم يستغرقوا الزمان ولا كانوا أقرب الناس زمانًا إلى قريش، نزع الجار قبل الظرف لعدم الإلباس أوأنه عظم فتنتهم لما كان لهم من العظمة والمكمنة، فجعلها لذلك كأنها مستغرقة لجميع الزمان فقال: {قبلهم} أي قبل هؤلاء العرب ليكون ما مضى من خبرهم عبرة لهم وعظة.
ولما كان فرعون من أقوى من جاءه رسول قبلهم بما كان له من الجنود والأموال والمكنة، وكان الرسول الذي أتاه قد جمع له- صلى الله عليه وسلم- الآيات التي اشتملت على التصرف في العناصر الأربعة.
فكان فيها الماء والتراب والنار والهواء، وكانوا إذا أتتهم الآية قالوا: يا أيها الساحر! ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون، فإذا كشف عنهم ذلك عادوا إلى ما كانوا عليه كما أخبر تعالى عن هؤلاء عند مجيء الدخان- إلى غير ذلك مما شابهوهم فيه من الأسرار التي كشفها هذا المضمار، وكان آخر ذلك أن أهلكهم أجمعين، فكانوا أجلى مثل لقوله تعالى في التي قبلها {فأهلكنا أشد منهم بطشًا} [الزخرف: 8] خصهم بالذكر من بين المفتونين قبل فقال: {قوم فرعون} أي مع فرعون لأن ما كان فتنة لقومه كان فتنة له لأن الكبير أرسخ في الفتنة بما أحاط به من الدنيا، وسيأتي التصريح به في آخر القصة {وجاءهم} أي المضافين والمضاف إليه في زيادة فتنتهم {رسول كريم} أي يعلمون شرفه نسبًا وأخلاقًا وأفعالًا، ثم زاد بيان كرمه بما ظهر لله به من العناية بما أيده به من المعجزات.
ولما أخبر بمجيئه إليهم بالرسالة التي لا تكون إلا بالقول، فسر ما بلغهم منها بقوله: {أن أدوا} أي أوصلوا مع البشر وطيب النفس، وأبرز ذلك في صيغة الأمر الذي لا يسوغ مخالفته ولما كان بين موسى عليه الصلاة والسلام وبين تصرفه في قومه حائل كثيف من ظلم فرعون وقومه، أشار إليه بحرف الغاية فقال: {إليّ} ونبهه على أنه لا حكم له عليهم بقوله: {عباد الله} أي بني إسرائيل الذين استعبدتموهم ظلمًا وليست عليهم عبودية إلا للذي أظهر في أمورهم صفات جلاله وجماله بما صنع مع آبائهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام ومن بعده وما سيظهر مما ترونه وما يكون بعدكم.
ولما كان لهم به من النفع إن تبعوا ما جاءهم به والضر إن ردوه ما ليس لغيرهم، وكان لا يقدر على تأدية بني إسرائيل إليه من أهل الأرض غيرهم لاحتوائهم عليهم كان تقديم الجار في أحكم مواضعه فلذلك قال مؤكدًا فإنكارهم لرسالته عليه الصلاة والسلام: {إني لكم} أي خاصة بسبب ذلك {رسول} أي من عند من لا تكون الرسالة الكاملة إلا منه، ولما كان الإنسان لا يأتمن على السياسة إلا ثقة كافيًا، قال واصفًا لنفسه بما يزيل عذرهم ويقيم الحجة عليهم: {أمين} أي بالغ الأمانة لأن الملك الديان لا يرسل إلا من كان كذلك.
ولما كان استعباد عبد الغير بغير حق في صورة العلوعلى مالك العبد قال: {وأن لا تعلوا} أي تفعلوا باستعبادكم لبني إسرائيل نبي الله ابن خليل الله فعل العالي {على الله} الذي له مجامع العظمة ومعاقد العزة بنفوذ الكلمة وجميع أوصاف الكمال فإنكم إن فعلتم ذلك أخذكم بعزته ودمركم بعظمته.
ولما كان علومن يتصرف في العبد على مالك العبد لا يثبت إلا بعد ثبوت أنه ملكه وأنه لا يحب التصرف فيه، علل ذلك بقوله مؤكدًا لأجل أن ما أتى به بصدد أن ينكروه لأن النزوع عما استقر في النفس ومضى عليه الإلف بعيد: {إني آتيكم} وهو يصح أن يكون اسم فاعل وأن يكون فعلًا مضارعًا.